فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{كَلاَّ} ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلاً للردع والدك قال الخليل كسر الحائط والجبل ونحوهما وتكريره للدلالة على الاستيعاب فليس الثاني تأكيداً للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك جاؤوا رجلاً رجلاً وعلمته الحساب بابا بابا أي إذا دكت الأرض دكاً متتابعاً حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثوراً وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى ثارت كالصخرة الملساء وأيا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية.
{وَجَاء رَبُّكَ} قال منذر بن سعيد معناه ظهر سبحانه للخلق هنا لك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة وقيل الكلام على حذف المضاف للتهويل أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته عز وجل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظخر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام {والملك} أي جنس الملك فيشمل جمع ملائكة السموات عليهم السلام {صَفّاً صَفّاً} أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل ينزل يوم القيامة ملائكة كل سماى فيصطفون صفاً بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والإنس وقيل يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم وهو قريب مما ذكر وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفاً حول الأرض فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر وقال بعض الأفاضل الظاهر إن الملك أعم من ملائكة السموات وغيرها وتعريفه للاستغراق وادعى أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين.
{وَجِيء يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قيل هو كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 36] على أن يكون مجيؤها متجوزاً به عن إظهارها واختيرانه على حقيقته فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كا زمام سبعون ألف ملك يجرونها» وفي رواية بزيادة «حتى تنصب عن يسار العرس لها تغيظ وزفير» وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناجاه ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام منكسر الطرف فسأله على كرم الله تعالى وجهه فقال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية {كلا إذا دكت الأرض} [الفجر: 21] الآية فقال له علي كرم الله تعالى وجهه كيف يجاء بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها فأخذوها لا حرقت من في الجمع» وفي رواية: «لولا أن الله تعالى حبسها لا حرقت السموات والأرض» وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان {يومئِذٍ} بدل من {إذا دكت} وظاهر كلام الزمخشري إن العامل فيه هو العامل نفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ الإنسان} وهو قول قد نسب إلى سيبويه وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الأول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثراً أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسناً وقبحاً أو من التذكر بمعنى الاتعاظ أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز وجل وعظيم عظمته تعالى شأنه وقوله تعالى: {وَإِنّى لَهُ الذكرى} اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه.
و{أنى} خبر مقدم و{الذكرى} مبتدأ و{له} تعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك مضاف محذوف أي وأني له منفعة الذكرى ولابد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت إن هذا يتحقق بما قرر أولاً على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقصوراً على النافع استقام من غير تقدير ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه وأما كونه حكاية لما كان عليه في الدنيا من عدم الاعتبار والاتعاظ فليس بشيء.
واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلاً كما زعم المعتزلة بناء على وجوب الاصلح عندهم وقيل في توجيهه أنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بين في محله الندم على المعصية من حيث هي معصية والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلا فيها وهذا التذكر هو عين الندم المذكور وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره لبس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى: {يَقول يا ليتنى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَأتى}
ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل.
وهذه الجملة بدل اشتمال من {يتذكر} أو استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول يا ليتني إلخ واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ومفعول {قدمت} محذوف فكأنه قال يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالاً صالحة انتفع بها فيها وقيل اللام للتعليل إلا أن المعنى يبا ليتني قدمت أعمالاً صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالاً صالحة وقت حياتي في الدنيا لا نتفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكناً من تقديم الأعمال الصالحة وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز وجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلاً على الاستقلال ورد به على المجبرة وهو عنده غير المعتزلة زعماً منه المنافاة بين التمني والحجر وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك وفي الكشف إن التمني قد يقع على المتحسيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية.
{فَيومئِذٍ} أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال.
{لاَّ يُعَذّبُ عذابهُ أحد}.
{وَلاَ يُوثِقُ عذابهُ أحد} الهاء اما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز وجل وكأنه قيل لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالاً شائعاً في مثل.
وقد حيل بين العير والنزوان

وان {نظن إلا ظناً} [الجاثية: 32] فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق فللغفول عن نكتة الكناية وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذاباً ووثاقاً لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمر و{لا يعذب} و{لا يوثق} بالبتاء للمفعول فالهاء في {عذابه} و{وثاقه} للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والإغلال مثل {وثاقه} لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل عذاب الإنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أوان التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى.
والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذاباً من إبليس ومن في طبقته ثم إن الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية بن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل إن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر للإنسان المذكور في قوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان} [الفجر: 23] إلخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه {وثاقه} بكسر الواو.
وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة (27)} الخ.
حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر انه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس إلخ اما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب وليظهر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها: {يا أيتها النفس المطمئة} إلخ وكأنه للإيذان بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة.
والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالإطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا بمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلاً وهو وجه حسن والارتباط عليه إن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب} [الرعد: 19] وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي {يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة} وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الآكثر وهي على هذا أيضًا تقابل السابق وهو المتحسر المتحزن.
وقرأ زيد بن علي {يا أيها} بغير تاء وذكر صاحب البديع أن ايا قد تذكر مع المنادي المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك إنها كما لن تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس هاهنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمنئة.
{ارجعى} أي من حيث حوسبت {إلى رَبّكَ} أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولاً وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفاً في المحشر مخصوصاً يكرهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقتضى أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها أتقبل أم لا أي إلى ملاحظة ربك والانقطاع إليه وترك الالتفات إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولاً كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهى إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييباً لقلبها بأن الأمر قد انتهى وفرغ منه وليس بعد الأكل خير ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم ولا تحجم والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه: {إلى ربك} على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إلى {راضية} أي بما تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال: {راضية} بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك {مرضية} أي عند الله عز وجل وقيل المراد {راضية} عن ربك {مرضية} عنده وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى: {ورضوان من الله أكبر}.
{فادخلى في عِبَادِى} في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم {وادخلى جَنَّتِى} عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكان الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات وتعدي الدخول أولاً بفي وثانياً بدونها.
قال أبو حيان لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي تقول دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفاً حقيقياً تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودا بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان لرادك إلى معاد} [القصص: 85] على ما روى عن أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب (مفتاح السعادة) للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين وقيل المراد ارجعي إلى أمر ربك واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الجروع وقيل المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضًا وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث فقيل النفس بمعنى الذات أيضًا والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مراداً به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد وقيل النفس بمعنى الروح والمراد بالرب الصاحب وفسر بالجسد وباقي الآية على حاله أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر.
وقوله تعالى: {في عِبَادِى} [الفجر: 29] على حذف مضاف أي داخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير ولا يضر الأفراد أولاً والجمع ثانياً لأن المعنى على الجنس وقال ابن زيد وجماعة إن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال: «قرئت عند النبي صلى الله عليه وسلم {يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة} [الفجر: 27] الآية فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن هذا الحسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن الملك سيقولها لك عند الموت» وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل {ارجعي} بالموت إلى عالم قدس ربك {راضية} بما تؤتين من النعيم أو {راضية} عن ربك {مرضية} عنده تعالى {فادخلي} في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس {وادخلي جنتي} التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة وهذا الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد بدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عباده تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة.
ففي الحديث «أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة».
وفي بعض الآثار: إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انظم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منه ما يكملها فيكون سبباً أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية {ارجعى إلى رَبّكِ} [الفجر: 28] هذا عند الموت ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
وقيل إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين.
أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن المؤمن إذا مات أرى منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: «يا أيها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضياً عنك حتى يسألك منكر ونكير».
وقيل إنه في مواطن ثلاثة.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية (بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث يوم الجمع) وتفسر عليه بما ينطبق على الجمع وقيل يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالاكثار من العمل الصالح وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الامارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجهاً.
وأياً ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس وقيل إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول لله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد فتفسير النفس المذكور بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ذلك واشعرت الآية على بعض أوجهها بأن على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه.
وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني في عبدي على الإفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس.
وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج للطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه «اللهم إني أسألك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك». اهـ.